Tuesday, October 9, 2012

تـلـك الأفـكـار الجـديـدة


و في أوقات مثل هذه أجده محدقاً فيّ عيناً بعين. تاركاً لي الاختيار - بيني و بينـِك بضع خطوات ، تقدَّمي و سأتقدَّم
  ...

مؤخراً فقط وجدتني أفاجئ نفسي بأفكاراً جديدة عليّ - أفكر في أنني سأعيش عمراً مديداً ، و سأكون من هؤلاء السيدات المسنات كثيري الحركة ، عاليات الصوت ، المفرطات في النحافة. قد أبلغ التسعينات ، و قد أظل باحثة عن الخبرات - خبرات صغيرة لا تختلف كثيراً عن خبراتي الآن . و سأكون قد مضيتُ عمراً يبدو طويلاً لكنه لا يضم أحداثاً و أزمات مضنية باستثناء أنني سأكون موجودةً عندما يذهب الآخرون بلا عودة. و أظن أنني سأظل أفكر في الحياة الهادئة المستقرة المرضية لي ... و كأنها شيئاً سيحدث فيما بعد

لا أفكر كثيراً في الوقت حالياً ، و أشعر أنني لم يزل لدي الكثير منه . فأقضيه في أبطأ وسائل المواصلات العامة - أركب الترام في الاسكندرية ، و المترو (الذي يشبه الترام) في مصر الجديدة. و الأوتوبيس الأحمر في الاسكندرية ، و الأوتوبيس الأخضر (الذي يعلق في أزمات المرور بالساعات) بين مدينة نصر و التحرير . أفكر في كل الأغنيات الطويلة التي تسليني ، و في المساحة الخالية على جهاز الـ آي بود الصغير الذي أملكه ، أفكر في كل الأهل و الأصدقاء الذين أتمنى يوماً أن أذهب و أقابلهم ، و أفكر في أن أدعوهم على الغذاء ، أطهو لهم وجبة خفيفة و جميلة ، و نجلس و نتحدث طويلاً حديثاً نقياً ، لا شوائب فيه ، و لا رسائل من تحت الترابيزات

أفكر في أبي ، و أنه قريباً سيتقاعد ، و أن كل شيء سيختلف بالنسبة لي وقتها ، و أنني سأشبع أبوة أخيراً . و سأنال من الدلال الناضج من الآباء لبناتهم بعد أن صاروا كبيرات - آباء مثل أبي ، و بنات مثلي. عليَّ أن أفكر فيما سأستطيع أن أفعله من أجله هو و أمي كي يعيشا فترة تقاعد هادئة ، دون قلق أو خوف علينا

و أخص الرجل الذي أحب بفكرة أو اثنين ... و أرسل له الابتسامات في الهواء .و أرى أنني قد حدث لي ما سمعت عنه من الآخرين - أتمنى له السعادة ... فقط هكذا ، بدون عقد أو كليشيهات

تهرب مني الساعات و أنا أفكِّر
  ...

و في وقت مثل هذا أجده محدقاً فيّ عيناً بعين. تقدَّمي و سأتقدَّم . كل من تتمنين سماع أصواتهم ، و كل هؤلاء الذين تعلمين أنهم يتمنون سماع صوتك . كل ما عليك أن تفعليه. كل الأماكن التي تريدين رؤيتها . كل ساعات التي تنقضي و أنت تمشين من مكان إلى آخر ، كل الأغنيات التي تحبين ، كل الأفلام التي عليك أن تشاهديها ، الكتب بجوار سريرك التي لا تعلمي مصائر أبطالها بعد. ملابسك التي بحاجة للذهاب إلى الخياط كي تضيق ... طبق وجبة الغذاء المغطى بورق الألومنيوم الذي ينتظرك في الفرن

كل هذا من الممكن أن ينتهي ... باختيارك أن تتقدمي بضع خطوات

 ...


كل أسبوع ، أشعر بالموت يحدق فيّ و أنا أعبر الطريق ليلاً  من على يمين شارع عباس العقاد إلى يساره . و أضواء السيارات ترمقني و تمر من أمامي مسرعة ، كأنني علي أن أختار ... أي منهم ستكون أكثرهم رفقاً بي ؟

Friday, October 5, 2012

العلالي


لم أعد أشعر بأي كدمات أعلى رأسي ، لا يحدثني عنها الآخرون ، ولا أرى قلقهم حول كدماتهم هم شخصياً ... زال الألم ، زالت الصدمة الأولى ، لم يتبقى سوى تلك النظرة التي ترتسم على وجه من حرقت يدها في المطبخ بعد أن زال ألمها و فزعها و جلست تنظر للحرق على يدها

 أرى خيبة الأمل ظاهرة على وجوه الجميع ... لكن أرى أنهم ، على اختلاف شخصياتهم ، يظهرون خيبة أملهم كل بطريقته . البعض كثيرو الشكوى ، و البعض شديدو الفجاجة ، لكن أكثرهم استنزفهم الغضب و لم تعد تفوتهم فرصة للشماتة

 أما أنا ، فأميل إلى العزلة  ، و أنزوي في المناقشات و أنسحب منها بهدوء و لم أعد أرى جدوى من هدر طاقتي فيها. و لم أعد أشاهد التلفزيون ، و لم يعد استدراجي (أو محاولة استفزازي)  للحديث حول كل ماحدث سهلاً... أهم شيء أنني صرتُ أصدق أننا نصبح أكثر لطفاً بعد الكثير من الإحباطات

 صرتُ أتوجه بخالص اهتمامي و طاقتي في اتجاه كل ما أسميه "حقيقي" -  ترتيب دولابي ، أدراج شراباتي و ملابسي الداخلية و مستحضرات التجميل . أمسح المرايا . أعيد ترتيب المكتبة ، أفسح المجال لنفسي كي أجلس و أضع أغراضي في نظام . اشتريت أباجورة جديدة ، أقرأ كتباً جديدة ، أبتسم في وجه الأفكار الجديدة. و أطهو وصفات جديدة ... حتى أنني رتبتُ أسبوعي ترتيباً جديداً فيما يتعلق بمواعيد الجامعة. لم أعد أستطيع أن أميز بين ما هو طبيعي ، و ما هو غريب ، و ما هو عادل ، و ما هو غير مقبول ... صرتُ أتقبل كل شيء . كل ما أحتاجه هو عدة ساعات بمفردي في غرفتي كي أستعد لتفادي التذمر. غرفتي ، التي هيأتها كي تحتويني بالشكل الذي يرضيني

غرفتي ... عنبر البنات كما يقول لنا الجميع. أكبر غرفة بالمنزل. في الماضي كانت تحوي ثلاثة أسرَّة كبيرة و ثلاثة مكاتب لي و لأختيَّ ، قطعة موكيت حمراء على شكل قدم كبيرة ، سجادة زرقاء كبيرة مرسوم عليها ولد أصهب لديه نمش على خده يسبح في أعماق البحر.و دولاب كبير يصل للسقف للملابس الشتوية و الملابس الداخلية ، و ضلفة علوية لتخزين الوسادات و الملاءات و الأغطية ، و دولاب أصغر للملابس الصيفية. و هو نفس الدولاب الذي كان موجوداً في غرفة أمي و هي في مثل عمري . و كان دولاباً أقصر من الآخر ، و كنتُ أتسلق فوقه لأختبيء و أفاجئ إحدى أختيَّ ... و مع الوقت وضعتُ لنفسي الوسائد و المساند و بعض لعبي و بعض مجلات ميكي و جهاز الجيم بوي و أصبحتُ أقضي معظم وقتي فوق الدولاب . حتى أنني أحياناً كنتُ أحضر كتب و كراسات المدرسة و أؤدي الواجبات المدرسية في "العلالي" ... هكذا أطلقتُ على المكان بيني و بين نفسي

و لما كبرنا ، و كنتُ على مشارف دخول الجامعة ، جددنا الغرفة و تم التخلص من كل شيء. الأسرَّة ، المكاتب ، الدولاب الكبير بعد أن تهالك ... أما بالنسبة للعلالي فقد تم شحنه إلى المصيف الهادئ البعيد بعنبر البنات هناك ... بعد أن تم تلميعه و تجديده و تركيب مرآة جديدة داخل ضلفته. ولم يزل يحوي الملابس الصيفية بينما تستخدم الضلفة الأخرى لتخزين الأغطية و الوسادات . و في الدرج الوحيد أضع المايوهات و بونيهات السباحة و مستحضرات الحماية من حروق الشمس . و فوقه وضعتُ جهاز كاسيت ، و صندوق جهاز الريسيفر ، و مساحة فارغة أضع عليها حقيبتي التي أسافر بها إلى المصيف

مصيره أن يحمل بهجة الملابس الصيفية مع أمان و سكون الانعزال
 
و رغم أنني لم أعد أصعد للعلالي ، لكنني أتمكن من أن أوفر لنفسي تلك العزلة التي تبقيني هادئة و لطيفة ، غير سهلة التجريد من مواطن قوتي . لا أتوقف كثيراً أمام كل ما يحدث لي. قادرة على أن أُظهر خيبة أملي بتوجيه كل طاقتي نحو كل ما أراه حقيقي -  كترتيب دولابي ، أدراج شراباتي و ملابسي الداخلية ....  بلا شكوى ، و بلا فجاجة ، و بلا بحث عن فرص للشماتة
 
---
لوحة لـ مـيـريـت مـيـشـيـل