Saturday, July 12, 2014

مدينتان. واحدة أحبها، و الأخرى تحبني



ألعب في الاسكندرية لعبة كنت ألعبها وحدي مرارًا و تكرارًا و أنا طفلة في بيتنا - أقف بظهري ملاصقًا لحائط في أول البيت، و أندفع بكل سرعتي إلى أن أصل إلى الحائط الأخر على الطرف الآخر من بيت. و بعدما أصل، أعود بكل سرعتي إلى الحائط الأول... الأمر كله لا يأخذ أكثرمن ثوانٍ. و وقتها لم يكن لدي غرض من اللعبة إلا ربما أنا أعد خطواتي في كل مرة، أما الآن فأرى أنني كنتُ أحاول التأكد بنفسي من أنه لا مكان للهروب و لا طريقة للاختراق، هنالك فقط هذه المساحة. كل الحياة ستحدث بين حائط و آخر. و بالرغم من أن المساحة لا تعد واسعة، إلا أنها تسع الكثير من المرح و التجارب
***
الآن... يمكنني أن أسمِّي كل شيء باسمه الأصلي ، و أن أرى كل شيء بلونه الحقيقي. و أنا في مثل هذه الأوقات من الانتعاش – ابتسم برضا في المواصلات و سائرة بين الناس في الطرق. أطهو الطعام بالكثير من التأني، و أستحمُ بالكثير من الهدوء ... أظن أن الطريق يسير بي في الاتجاه الذي كنت أحلم به في أحلام يقظتي. لكن الحياة الحقيقية أروع و أكثر إدهاشًا من أي حلم يقظة

في حياتي مدينتين؛ واحدة أحبها، و الأخرى تحبني

المدينة التي أحبها، غارقة في الانطباعات المسبقة المأخوذة من الأفلام و الأغنيات و الأشعار، و رغم حبي لها، لم أكتب عنها كلمة واحدة حتى اليوم. و قد مللتُ من كليشيهات أي بلد أجمل من الأخرى و أي أناس أفضل و أي حياة أجمل ... القاهرة أم الإسكندرية

الاسكندرية هي المدينة التي أحبها. لكني لا أحب قراءة أعمال الغزل فيها و النوستالجيا الحالمة حولها. و لا أعتقد أنني يمكنني الكتابة عنها هكذا بنفس بساطة الآخرين الذين لم يعيشوا بها. ولا بنفس شغف هؤلاء الذين يعرفون المدينة جيدًا، و يتنقلون بين أحيائها الشعبية و الراقية و يقدرون على رؤية شخصية المدينة بحق كما لا أراها أنا. لكن ما يمكنني أن أقوله هو أن هذه المدينة كل شخص فيها يراها من زاويته

و من زاويتي أنا ... أرى أن الإسكندرية مدينة متعالية على من يعيشون فيها و ترى أنها تستحق من هم أفضل منا، و بطريقة أو بأخرى، أرى أن هذه المدينة قادرة على أن تستغنى عنا جميعًا، و أن تنفض نفسها و تقذف بنا جميعًا في مياة البحر

في هذه المدينة، رغم صغرها، إلا إنني لا أشعر بأنني محبوسة. بل أشعر و كأنني أقف على نقطة ارتكاز سِن البرجل على الورقة - في منتصف الدائرة، على مسافة متساوية من حيثما أردتُ الذهاب

 لم أزل ألعب لعبتي حتى الآن في تحركاتي في المدينة... أعطي ظهري للبحر، و أتوجه بمشاويري إلى أبعد ما يمكنني أن أذهب... الطريق الصحراوي، أو أن أتوغل فيما بعد شارع أبي قير و شريط الترام و شريط القطار و أعبر بنفسي إلى الناحية الخلفية من المدينة، إلى أن أصل إلى أماكن نبذتها المدينة. فأعطيها ظهري و أتوجه مرة أخرى إلى البحر، و في الطريق أحسب الدقائق، و لترات البنزين أو جنيهات المواصلات، و أذاكر الطرق جيدًا، و ألاحظ بسهولة كل لافتة إعلانات جديدة، كل إشارة مرور جديدة، و كل صندوق قمامة جديد، كل مطب جديد

أخذ الأمر مني الكثير من الوقت و التركيز قبل أن ألاحظ أنني حينما أكون عند أقصى درجات و سعادتي و استمتاعي بقضاء وقتي في الإسكندرية، أميل إلى العزلة، و أن أبعد الآخرين عن طريقي... أقود ببطء شديد. أو أسير بسرعة بالغة، أمارس الجري وحدي، لا أنظر لأحد، لكن أنظرحولي كثيرًا أتأمل الأماكن كأنني أراها لأول مرة. أستمعُ إلى موسيقى عالية، غير راغبة في سماع أي شيء، .غير راغبة في التفكير في أي شخص .. فقط أريد أن أنظرحولي و أن أتحرك

بينما القاهرة قرَّبت عقلي و قلبي من كل من أحبهم و أفتقدهم ... استحضرهم و اعيد في ذهني حوارات دارت بيني و بينهم، و تمر أحداث من حياتي أمام عيني تمامًا كما يحدث في الأفلام. القاهرة جعلت عقلي يشرد طويلاً و ينغمس و يتشبث أكثر فأكثر بالذكريات الجميلة

Indept - مدين ة

أنا مدينة للقاهرة بالكثير مما تعلمته عن نفسي ، و بالأكثر مما عرفه الآخرون عني -  تعلَّمتُ أنني أصلح للحياة الخشنة ، و جيدة في التأقلم مع الظروف المرهقِة . إلا إنني أيضاً لاحظتُ أنني لا أحتمل شكوى الآخرين ، و قليلة الصبر أمام دائمي الشكوى من الناس – من المواصلات و الزحام و الطقس و الوظائف و الأسعار ... و أرى في هؤلاء أعداءً لي ، يحاربون روحي و يثقلونني بالأحمال. و مع الوقت نمَّيت سلوك و تكنيك يستبعدهم و يتجاهلهم كي أحقق الحماية لروحي و مزاجي من كل هؤلاء. و القاهرة مدينة مليئة بالأعداء

لكنها كانت مرحة معي كما كنت رحبة الصدر و مهذبة و متمهلة معها - أحتمل مفاجآتها بهدوء و ابتسامة و كأنني أتعرَّف عليها ، و لم أبادر بإصدار الأحكام. تواضعتُ أمام المدينة التي يأتيها الآخرون من الإسكندرية و بمنتهى التعالي يبدون الشوق لنسيم البحر و يتململون من الزحام... دون إعطاء فرصة  لها لتـُبدي ما تقدر على منحه. و هي مدينة كريمة بحق. تواضعتُ أمام القاهرة ... لذلك لم تكن "قاهرة" معي . و لم تؤذني حتى بأقل الدرجات. و صرنا أصدقاء

 لا أدعي أمام الآخرين أو أمام نفسي أنني أعرفها جيدًا. لكن ما أعرفه عنها، أعرفه عن ظهر قلب؛

  أعرف أن الطرق إلى أي مكان إما أطول بكثير مما أعتقد ، أو أقصر بكثير من مبالغات سكانها. و طقسها إما أخف بقليل من مبالغات الجميع، أو أشد حرارة مما ظننتُ أنه بإمكاني أن أتحمُّله. خلاصة القول، كان عليَّ ألا أستمع لرأي أحد فيما يتعلق بالتحركات بها؛ فلا أحد من سكان هذه المدينة يحبها و يحب أن يتحرك بها، لم يعطيني أحد رأي أو طريقة موضوعية تسهل عليَّ حياتي بها. فلا أحد يعلم مثل هذه الأشياء هنا

 لكنني أحب العديد من الأشياء في القاهرة... أحب ذلك الشعور بالطمأنينة التي تنتابني عندما أرى الزحام في كل مكان، كل يوم... أرى في هذا التكرار اليومي شيء من الاستقرار، و تمكنتُ من الاعتياد عليه، و استغلاله لصالحي... أصبحت أؤجِّل كل المكالمات التي عليَّ أن أجريها إلى الوقت الذي يضيع في الزحام، أتفقَّد إيميلاتي و أقرأؤها و أرد عليها. و أستمع إلى كل الأغاني الجديدة التي أرغب في سماعها دفعة واحدة... بالإضافة إلى أنني أصبحتُ أُعِد السندويتشات كي أتناول إفطاري في الزحام. وجدتُ في كارثة الزحام المروري وقت يجمعني بنفسي كي أنجز فيه الأشياء التي أرى أنها تضيِّع وقتي

 أحب فكرة أنني يمكنني أن أترك شعري دون أي نوع من أنواع الربط ودون وضع أي نوع من أنواع المستحضرات، و سيظل على نفس الشكل و أحيانًا يتحسَّن. كأنني أسير تحت سيشوار كبير يجفف شعري كلما بدأت في التعرُّق

 أحب أنني بعد غسيل ملابسي، يمكنني أن أضعها على الحبل و بعد ساعة أو أقل أُطِل عليها و أجدها قد جفت. ليس هذا فقط، بل إن نقص حركة الهواء يجعل الملابس تـُرفع من على الحبل مكوية و دافئة و جاهزة للاستخدام مباشرة.

 و أحب أنني عندما أسير في الشوارع، تأتي إلى ذاكرتي تلك الثواني التي أفتح فيها الفرن فيلفح الهواء الساخن في وجهي، و أمدُ ذراعي في قلب الصهد بمنتهى التركيز كي أصل لقلب قالب الكيك، و أغزه بطرف السكين لأعلم إن كان قد نضج بالكامل أم لا.... هذه الثواني ممتدة طوال ساعات تنقلي في القاهرة

و أحب كشري التحرير. الموجود في شارع التحرير، و ليست الفروع الأخرى ذات اللافتات الخضراء، و الموجود منها في الإسكندرية. ولا أجد له بديل

كما أحب جدًا لافتات الإعلانات المدهشة بالغة الضخامة ... تفرض عليَّ أن أنظر و أمعن النظر في وجوه الممثلين و مقدمي برامج التوك شو - أفكر فيما يفكرون، و أخمن قصص المسلسلات قبل أن تبدأ

لكن أجمل ما في القاهرة ... هو أنها تضربني على رأسي بمطرقة من حديد، فعندما أعود إلى البيت و أستحم و أنام، أستيقظ لأجد نفسي قد نسيت تمامًا كل ما حدث لي. و أستيقظ كل يوم لأبدأ من جديد

في النهاية ... القاهرة تتطلب الكثير من الطاقة، و الوجود فيها بالنسبة لي يحتاج إلى دوافع قوية (كرغبتي في الدراسة)، لكن بانتهاء الدراسة انتهت طاقتي، و كادت القاهرة أن تقضي عليَّ في الأيام الأخيرة. لا حنينًا ولكن لكونها مدينة لا تشبهني في شيء... لا أرى الكثير من بائعي الخضروات الجائلين، ولا من ينادون على الروبابيكيا... حتى إنني غادرت من القاهرة قبل شهر رمضان بيوم واحد و لم أرى زينة رمضان مُعَلَّقة ... على الأقل في الأماكن التي كنت أتحرك بينها من وسط البلد، و الهرم، و السادس من أكتوبر، و مدينة نصر

عدتُ إلى الاسكندرية في الوقت المناسب كي ألتقط أنفاسي، و كي تستقبلني بهواء بارد، و بالكثير من الرطوبة التي جعلت شعري يدرك أصوله الإفريقية... و وقت وصولي إلى الكورنيش في طريقي إلى بيتي، ثقبت رائحة البحر أنفي، و صدَّقت كل ما يقوله القاهريون عن رائحة البحر. بلا رومانسية و بلا أوهام صنعتها الأفلام و الأشعار

وصلتُ بيتي، لأجد إضاءة الغرفة تمامًا كما أحبها، و أغراضي موضوعة على الحوض في الحمام... تأخرتُ قليلاً قبل أن أتذكر شكل فرشاة أسناني. أخطأتُ و مددتُ يدي إلى مكان آخر كي أشدُ السيفون. فاجأتني المياة التي تنزل باردة و منعشة من الصنبور في كل وقت. نظرتُ في الأطباق قليلاً كي أتذكرها قبل أن أضع لنفسي الطعام، تأملتُ الملاعق التي قد نسيتُ شكلها. وجدت يدي برطمانات الملح و التوابل سريعًا دون حاجة لقراءة ما هو مكتوب على البرطمان. سريري، دولابي، كتبي في مكانها، فيشة شاحن موبايلي في مكانها القريب من يدي

وضعتُ يدي بالضبط على ما أحبه في الإسكندرية... رغم الرطوبة صيفًا، و كآبة البرد و المطر شتاءً، و رغم الملابس المغسولة التي لا تجف، و إن جفت و نسيتها على الحبل ليلاً، استيقظ صباحًا لأجدها قد بللها الندا مرة أخرى. و رغم كارثة زحام المرور التي أرى أنها أفدح تلك التي في القاهرة. رغم أن المضايقات و المعاكسات التي تحدث لي في الإسكندرية أكثر من تلك التي تحدث لي في القاهرة... إلا أن الاسكندرية هي المدينة التي صنعتني، و جعلت مني الإنسانة التي أنا عليها الآن، و أنا أيضًا صنعتُ فيها و منها تاريخًا حافلاً من الذكريات و الخبرات التي لم أزل أحصد ثمارها حتى الآن

 أحب الإسكندرية لأن في كل مكان أمر به، هنالك ذكرى تجمعني بشخص ما، و هذا في حد ذاته يجعلني أُفـَضِّل أن أكون هنا ... بصرف النظر عن وجود أو غياب أصحابها. هنالك شيء أضفته أنا إلى هذا المكان، و أحب دائمًا أن أكون بالقرب من الأماكن التي أضفتُ إليها جزءً مني

 و الأمر لا يتعلق بهدوء المدينة، و بطء إيقاعها، ولا بسهولة التحرك فيها، ولا للأمر أي علاقة من قريب أو من بعيد بالبحر و لا بالكورنيش و لا بالنسيم العليل و لا برائحة الملح

---

* فوتوغرافيا: فادي قدسي
https://www.facebook.com/fadikoudsiphoto?fref=ts

Saturday, April 19, 2014

عُــمـَـر


سألوا فيرجينيا وولف ذات مرة عن السبب وراء موت أحد الشخصيات في معظم رواياتها؟ و ردت بأنه على أحدهم أن يموت كي يقدِّرالآخرون قيمة الحياة
ماتت فيرجينيا وولف ، و من بين كل الطرق التي كان من الممكن أن تختارها ... اختارت الغرق؛ ملأت جيوب معطفها بالصخور ، و قفزت في النهر

 لا مكان للشاعرية فيما أريد أن أقول. أجد في الجدية الكثير من الطمأنينة هذه الأيام
***
هنالك أيامًا تمرعليّّ أشعر بها و هي تغيرني و تغير مصيري

كان أول يوم من أسبوع سأقضيه مع مجموعة لا أعرفها جيدًا ولا يعرف أحدنا الآخر ، لكنني استطعتُ أن أشكـِّل فكرة عنهم كمجموعة ، و أقول أنني كنتُ أشعر أنني لم أكن وسط غرباء
  
في المجموعات الكبيرة التي لا أعرفها ، عادة ما أميل إلى عمل الأشياء بمفردي ، بخبرة قديمة لدي في أن الأشياء التي تسعدني  نادرًا ما تستهوي أحدهم؛ كنت أفكر في الذهاب إلى السوبر ماركت لشراء بعض الأغراض بطريقتي البطيئة في التبضُّع ، كنت سأتسلل في هدوء إلا أنني فكرت أن بعضهم قد يحتاج شيئـًا من هناك ، فعرضتُ اقتراحي ، و عرض البعض اقتراحات أخرى ... و رست الخطة على أننا سنذهب للسوبر ماركت ليلاً على أي حال ، و أننا سنذهب الآن إلى الشاطئ

في أي ظرف آخر ، كنتُ سأذهب إلى السوبر ماركت كما خططتُ ، ثم ، إن تبقى لدي وقت ، سأبحث عن الجميع و أعرف مكانهم و  أقرر حينها إن كنتُ سأذهب إليهم

التغيير الأول الذي غير مصيري ذلك اليوم هو أنني وجدتُ نفسي أميل إلى أن أغير خطتي و أذهب إلى الشاطئ
.
 .
أحب السباحة قدر حبي للقفز على الترامبولين أو ركوب المراجيح - حركات لطيفة ، تنفض عني الكسل و تـُشعـِرني بالخفة و السعادة لفترة ما ، لكن دون شغف حقيقي و مستمر. ليس قدر سعادتي بالجلوس على الشاطئ ، و العبث في الرمال بحثاً عن كنوزصغيرة ، لا قيمة لها إلا في كونها وجدت يدي في الرمال

التغيير الثاني ، هو أنني ، ذلك اليوم ، قررتُ السباحة
أفضل السباحة في البحر عن حمام السباحة، إلا إنني أحترم البحر ، و كانت لدي تجربة مع كيف يمكن أن أبالغ في ثقتي بنفسي ، و كيف يمكنني أن أستخف بقدرته على ابتلاع الأشياء و الأشخاص

الآن ، أنا في البحر الأحمر مع هؤلاء الأصدقاء الجدد ... المياة منعشة و نظيفة و ضحلة ... و الرمال ، لم تكن كالرمال التي أعرفها ، كانت عبارة عن حصوات صغيرة من الصخور ، خشنة و غير مريحة تحت القدم ، و تنزلق بسرعة من فوق بعضها. كانت نوع من أنواع الـ"بلبطة" اللطيفة ... التي أحببها. بعد دقائق قررنا أن نخرج من المياة و نجلس على الشاطئ نشرب الشاي ... الشاي الذي لن نشربه كلنا مع بعضنا البعض مرة أخرى أبدًا

سأل أحدهم عن "عمر" ... عمر كان أحد أفراد المجموعة ، و كان معنا ، لكنه غير موجود حولنا الآن ... و كوننا لا نعرف بعضنا جعلنا جميعاً نظن أن عمر موجود ، لكننا لا نلاحظه ... لعله يتحدث في الموبايل ولا يسمعنا ننادي ، لكن الموبايل موجود مع أغراضه. لعله عاد إلى الفندق كي يفعل شيئاً ما ، لكن شبشبه و الـ تي شيرت الذي كان يرتديه موجودين وسط أغراضه . لعله خرج من البحر و ذهب للتمشية ، لكن نظارة نظره كانت موجودة و هو لا يسير بدونها . انتهيتُ من اللبس ، و أنا أحاول ألا أفترض الأسوأ ، و أنه يمكنه أن يكون في أي مكان ، و كونه شخص هادئ يجعله ينسحب من الأماكن دون أن يلاحظه أحد . عمر خرج من المياة

فكرت أنه في أسوأ الأحوال ، لن يغرق أحد في مثل هذه المياة الضحلة ... من الممكن أن يجرفه التيار بعيدًا . وأنه الآن ينادي و يشير لنا كي نراه ، لكننا لا نرى جيداً لأن الشمس في أعيننا. ففكرتُ في اليوم الذي كدتُ أن أغرق فيه ، و وظـَّفتُ كل خبرتي في تلك اللحظات كي أتمكن من تخمين أين سينجرف عمر الآن

نظرتُ إلي المياة و أين تتجه ، و الهواء و أين يندفع ، و أجريت بعض الحسابات في عقلي ... إن كان عمر فقد السيطرة على نفسه ، فسيكون موجودًا في تلك المنطقة. و أنه حتماً سيظهر و يختفي من أمامي لأن البحر يعلو و يهبط قليلاً . أركز ، أظلل عيني ، أنصتُ بحرص شديد . أينما كنت يا عمر ، أنا أفكر الآن بعقلك ، و أعرف كيف تشعر ، و ما تحاول أن تفعل

نزل الغطاس يبحث عنه ، و أنا أفكر في أن كل ذلك مضيعة للوقت ، و أنه قد خرج من المياة على أي حال. و أفكر في كـَم الضحك الذي سنضحكه حين يظهر هو فجأة من ورائنا و يسألنا عمن نبحث !
 بعدها بخمسة عشر دقيقة ،  ظهرت رأس الغطاس ... خلع قناع الغطس بيد ، و كان ممسكاً بـ عمر من قدمه بيده الأخرى ، لونه أبيض تمامًا ... و كان مقلوبًا رأسًا على عقب تحت المياة . قفزتُ في المياة بفستاني ، و حملته من رجليه بينما حمله الغطاس من تحت ذراعيه

آلاف الأفكار في لحظات قليلة ... فكرت في كل المقالات التي قرأتها عن طرق الإنعاش القلبي الرئوي للغرقى و من أصابتهم سكتة قلبية ...  فكرتُ في أنه كان تحت الماء كل هذا الوقت الذي كنتُ أنظر أنا من فوقه ... فكرتُ فيما يقولونه عن العروق ، و أنه لطالما العروق موجودة و مرئية من على سطح الجلد ، فلازالت الدماء تجري بها . نظرت لى العروق في قدمه ؛ أستطيع أن أراها، ضغطتُ عليها استجابت ثم استعادت شكلها مرة أخرى ...

قام الغطاس بعمل الإسعافات له ، قلبه على ظهره و بدأ بالضغط على صدره بقوة  ، ضغطة ، و الثانية ، و الثالثة

فكرت في كل ما قرأته عن الغرق ، و أنه من أكثر طرق الموت سرعة و لا يشعر الغريق بأي ألم ، و لذلك كان الغرق هوة من أولى طرق الإعدام التي طبِّقت على النساء ... لأنها أكثر الطرق رحمة. و فكرت أنني سأخبر عمر بذلك بعد أن يفيق

بدأ الماء يخرج من فمه و أنفه ، أبشرتُ . و انتظرتُ المشهد الذي يشبه مشاهد الأفلام - أن يشهق عمر ، و يكح ، و ينظر حوله بدهشة... و الجميع يتنفس الصعداء ، و يحمد الله. لكن ذلك لم يحدث ، ظلت المياة تخرج من فمه و أنفه ، مياة تحمل معها رمال ، و قطع من القواقع المكسرة الصغيرة ، ثم بدأ لون المياهة يتغير ، و يميل إلى الإحمرار . ثم أصبح ماءً أحمر

حرك الغطاس رأسه بيأس ، بينما استمر في الضغط

كنت أدعو الله بصوت مسموع ، أقول أن الله قادرًا على أن يعيده ... حتى بعد أن شحب تمامًا ، و بعد خروج هذه الكمية من الدماء من رئتيه  و هذا الهمود الذي هو فيه ، و نظرة اليأس الظاهرة على وجه الغطاس ... من الممكن أن يكون مخطئاً ... الله قادر على أن يعيده ... من أجل أمه التي لا تعلم الخبر الذي سيصلها بعد قليل

وصلت الإسعاف ، و حملوه داخلها ، و نحن في السيارة التي خلفها ، أنا لم أفقد الأمل ، و لم أتوقف لحظة عن الدعاء ، لكن جزءً مني كان مصدومًا بسرعة الحدث ... و كل ما كنت أفكر فيه وقتها ، هو أنه لم تكن لديه الفرصة كي يعرف أن لحظته قد حانت ... و أنه ربما آخر أفكاره كانت في أن الأصدقاء حوله حتماً سينتشلونه حالاً من المياة و يسألونه عما جرى له ... و الفكرة جلبت الدموع إلى عيني ... أننا خذلنا شخصاً ما ، و أنه ميت الآن على طاولة في مستشفى ، بعيداً عن أهله و عمن يحبهم

***
عـُمـَر ... في اللغة العربية هو وصف يوصَف به الشخص طويل العمر

غرق عمر في هذا المسطح الضحل ... كان عمره عشرون عامًا أو أكثر قليلاً. فكرت في أن ما حدث لم يكن حادث ، ما حدث كان خطة مرسومة و مصممة مسبقًا من أجله كي يأتي إلى هنا  ... و قبل حتى أن ينجز ما جاء من أجله ، يموت . لم يكن لأي شيء أن يقف في طريق هذه الخطة ... و الفكرة جلبت الهدوء إلى قلبي

ما أعرفه جيدًا هو أنه في حياة كل منا مواضيع معلَّقة تنتظرنا كي ننظر فيها ، أو أن نحسمها ، أو أن نغيرها ... ما كنتُ أفكر به هو أن عمر لم تكن لديه الفرصة كي يحسم مواضيعه المعلَّقة

التغيير الثالث الذي غير مصيري ذلك اليوم هو أنني عدتُ إلى غرفتي ، أرتعش بفستاني المبلل ، التقطتُ موبايلي و أجريت مكالمة للرجل الذي أحب... أجريت المكالمة التي كان هو بانتظارها منذ شهور ... لم أخبره بما حدث ، لكنني حسمتُ مواضيعنا المعلَّقة و قلت له الخلاصة وراء كل ما نتصارع بسببه منذ بداية علاقتنا ... و كان مدهشًا كيف جعلني موت أحدهم قادرة على اختزال أكثر الأشياء تعقيدًا بيننا في جملة قصيرة و بسيطة حملت له السعادة. و جعلني قادرة على أن أزيح أثقالاً عن رأسه و رأسي ، و أن أقرر أن أنهي الصراعات ، و أن آتي من أقصر الطرق ، و أن أضرب بكل المشوشات عرض الحائط
.
.
على أحدهم أن يموت ، كي يقدِّر الآخرون قيمة الحياة

كان ذلك منذ شهور، لكنني تغيرتُ كثيرًا و لم أعد كما كنت. التغيير الأكبر الذي أراه هو أنه رغم كل ما قد يشعر به الإنسان من فزع و خوف من يشهد موت مفاجئ كهذا إلا إنني لم أشعر بالخوف من الموت... شعور صادق بداخلي أخبرني أنني مستعدة للرحيل ... إن حانت لحظتي الآن ، فأنا مستعدة في أي وقت. لكن يأكلني القلق على أهلي و أصدقائي و من يحبونني ، و على ما سيشعروا به بعد رحيلي. خفت عليهم لأنني لن أكون موجودة بجوارهم كي أساندهم. و غيرني ذلك و جعلني إلى حدٍ ما أقل حدة معهم ، و أقل قابلية للاستجابة للمشكلات
عندما أنظر إلى احساس الفقد الذي شعرتُ به بعد فقد عمر الذي أعرفه منذ ساعات ، و لم أتحدث معه سوى بضع الكلمات المقتضبة، جعلني قادرة على تصوُّر خسارة أكبر
 .

أنا أدعو لـ عمر بصفة دورية ، و أشكره على التغيير الذي تسبب فيه في شخصي، و على كونه أصبح جزءً هامًا من حياتي، و أتذكر أهله و من يحبونه من وقت لآخر ، و أتمنى أن يكونوا قد وجدوا طرقًا تهوِّن عليهم الفراق
.

هنالك أيامًا تمرعليّّ أشعر بها و هي تغيرني و تغير مصيري ، و تؤكد لي أن ما يقولونه عن أنه هنالك خبرات قصيرة قد تتسبب في أن تغير حياتك للأبد ... صحيحًا
 سمعتُ من صديقة لي فقدت زوجها أنها تشعر أنه أقرب لها بعد موته من حياته ، و كأنه بموته قرر أن يصبح معها يسكن عقلها و يستمع إليها طوال الوقت... و أنا وجدتُ في هذه الفكرة الكثير من الدفء ، و أحب أن أظن أنها حقيقية
***
فوتوغرافيا: سارة سويدان *

Tuesday, January 21, 2014

ليس كما يقولون في الأفلام



بالنسبة لي ، العمر لا ينقضي بسرعة كما يقولون في الأفلام ، أرى السنوات تأخذ وقتها ثم تمضي بلطف. عندما أنظر للوراء كي أتذكر نفسي و أنا طفلة ، و أنا مراهقة ، أرى أنني على مسافة عشرات و عشرات من السنوات التي تفوق عدد سنوات عمري بكثير ... لعل السر يمُكن في كوني أتذكر كل شيء حدث حولي.

أتذكر أول برطمان جيل اشترته لي أمي منذ سنوات تبدو لي و كأنها منذ أكثر من ثلاثون عاماً ... و كانت أول سنوات لظهور الجيل ، و لم ترغب أمي في أن تجعلني استخدمه خوفاً على شعري ، إلا إنها اشترته لي و في قلبها نية أن تتركني استخدمه على فترات متباعدة ... لكنني اعتقد أنها اشترته أيضاً كي تـُرضي فضولاً ما داخلها تجاه ذلك المنتج الرائج الملوَّن.

وكان برطماناً كبيراً بغطاء أسود ، و يظهر الجيل من خلاله أزرق صريح . أحببتُ رائحته ، لكن بعد تجربة و أخرى توقفت عن استخدامه ، و كنت أفتحُ البرطمان كي أشم رائحته من وقت لآخر ، و كنت أرفعه إلى عيني و أنظر من خلاله و في داخلي قناعة أنه هناك ثمة شيء ما عالق بداخله. شيء لا يتحرك. كنت أحرك البرطمان يميناً و يساراً ، أرفعه لأعلى و أنظر من أسفله. و كنت متأكدة أن ذلك الشيء سأراه فقط إن فرغ البرطمان...

و لأنني فقدتُ الاهتمام به مبكراً ، ظل ذلك البرطمان لدينا فترة مرت عليّ و كأنها أكثر من خمسة عشر سنة... خلال تلك الفترة كان يراودني حلم من وقت لآخر بأشكال مختلفة ؛  

كنت أحلم أنني قفزتُ من مكان ما ، و سقطتُ في شيء ما لزج القوام جميل الرائحة و لونه كلون البحر في المناطق العميقة ... أدرك فيما بعد أنني سقطتُ في برطمان الجيل ، و أن ذلك الشيء الذي كنتُ أراه عالقاً بداخله كان أنا. في بداية الحلم أسعد بذلك الاكتشاف نفس تلك السعادة التي تغمرني حين أحل أحد الألغاز ، و لكن بعد بعض الوقت تخفت السعادة ، و أبدأ ببطء في اكتشاف حقيقة ما و أنا أحلم ، أكتشفُ أن داخل كل برطمان جيل هنالك شخص عالق ، و أن الجميع سيسقط في برطمان جيل عاجلاً أم آجلاً ...سنعلق داخل ذلك القوام الهلامي الذي سيتركنا نتحرك حركة بسيطة ، و لكن من شدة ضيق الحركة ، سنشعر أننا تجمدنا و تجمدت الأشياء من حولنا ، لكننا لازلنا على قيد الحياة . في الحلم ، لا أشعر بأي خطر أو قلق على حياتي ، رغم أنني سقطتُ في الجيل حتى غمرتُ رأسي ، لكنني لا يراودني أي شعور بالغرق. 

رغم أنني في حلم لا أشعر بأي شيء ، إلا أنني كنتُ استيقظ منه في حالة فزع ، و أسترجع الحلم في ذهني مرة بعد مرة ... أبحث عن شيء ما - متى كانت اللحظة التي قررتُ فيها أن أستسلم؟ 

كان الفزع من كوني فاتتني لحظة الاستسلام دون أن ألاحظ أو أقاوم يفوق فزع تجمد حركتي نفسه!

و بعودتي للعالم الحقيقي ، أظل أتحرك بنفس الاكتشاف ، أنني سأستمر في الحياة كما أريد. و لكن بداخلي يقظة ما من أن أتوقف عن الحركة و أستسلم للأشياء التي تثقل حركتي و تثبتني في مكاني... و بداخلي قناعة أنها ستحدث عاجلاً أم آجلاً ...

أشعر أنني بعيدة كل البعد عن ذلك الشعور بأن الحياة تمضي و أنا ثابتة في مكاني ، أو أحاول اللحاق بها ... في حين أنني أرى كل مَن حولي و في مثل سني يشعرون بذلك . من وقت للآخر أخشى أن يكون هنالك شيئاً ما لا أعرفه عن الدنيا ، و يعرفه الجميع ... لكنني أمر بذهني سريعًا على كل ما يحدث حولي ، و أرى أنني لم يفتنِ أي شيء ... و أنه لعلهم هم من فاتتهم لحظة اليقظة قبل أن يستسلموا للأشياء التي أثقلت حركتهم و تبتتهم في أمكانهم داخل برطمانات جيل أخرى.