Friday, November 20, 2015

أراك بعد قليل



هذه القصة ليست ككل ما أكتب. لست على طبيعتي اليوم. وما حدث اليوم كانت تعدني له الحياة منذ أكثر من عشرين عام. ولم يكن هنالك وقت أمثل من اليوم.

 ***
معظم من يعرفونني يعرفون أن أبي يعمل في الخارج، كنا أسرة كاملة نسبح معًا في البترول هناك، لكنه الآن يسبح وحيدًا. لكن فقط مَن يعرفونني جيدًا هم من يعرفون أن تأثير كل مرة يسافر فيها عليَّ يزداد قوة كلما مرت علي السنوات.

اليوم فجرًا كنتُ أوصله إلى المطار هو وحقيبته الصغيرة كي يلحقا بطائرتهما. كنتُ هادئة على غير العادة. وكنتُ أتصور أنني فور أن تحين لحظة الفراق، سأنهار ككل مرة. كنتُ أفكر في الوقت الذي كانت أمي توصلني فيه للمطار كي أسافر أنا بدوري إلى بلد لا أعرف فيها أحدًا كي أقضي أكثر من سنة، وتذكرتُ أنني كنتُ أبكي وألوِّح لها بالوداع وهي تكور قبضتيها في الهواء - طالبة مني أن أزداد قوة. تذكرتُ أنني اكتسبتُ من ابتسامتها الكثير من القوة التي استمرت معي حتى عدتُ ورأيتها مرة أخرى... وقتها بكت.

فكرتُ أنني سأمد أبي بنفس القوة، لم أبكِ، ولم أكن أدعي القوة. كنتُ خفيفة، وقلت له "أراك بعد قليل!". وعانقته دون تشبث خائف ودون تأثُر زائد عما أعانقه في الحياة اليومية دون تهديد الرحيل. كان كل شيء في مكانه.

بعد دخوله المطار، تابعته حتي غاب من نظري وسط زحام الطوابير في الداخل. ثم كان من المفترض أن أغادر، لكنني انتظرتُ هناك على باب صالة المغادرين. فقط وقفتُ هكذا. حتى سمعتُ آخر نداء للمسافرين، ورأيت الطائرة وهي تقلع. بعدها تمشيتُ ببطء إلى السيارة في شمس الصباح الجميلة. وفكرتُ في فكرتين؛ فكرتُ في نفسي عندما كنتُ طفلة، وأنني كنتُ كل مرة في نفس الموقف أجلس وراء أمي في السيارة وأدعو الله سرًا من كل قلبي أن تُلغى الرحلة التي سيغادر أبي عليها. أو أن يقرر فجأة أنه لن يسافر ويركض خارجًا من المطار كما يحدث في آخر فيديو كليپ أغنية "أنغام" "شنطة سفر". وتذكرتُ أنني على مر السنوات أصبحتُ أكثر عملية وعلمتُ أنني أتمنى شيئًا خياليًا لن يحدث، وذلك هو ما كان يصعِّب الأمر عليَّ كلما تقدمتُ في العمر. أما اليوم، فرأيتُ أن السفر قد غيرني، تأكدتُ أن هذا الرحيل أصعب عليه مما هو عليَّ في كل الأحوال. لم يكن يومًا غير ذلك.

وفيما أنا أفكر... رقم لا أعرفه اتصل بي في هذا الوقت من الصباح. رددتُ.
- ألو؟ 
قابلني الصمت...

ثم كررتها. وإذا بصوته يرد عليَّ، يسألني عما إذا كنتُ وصلت البيت، لأنه تعطل في الإجراءات وغادرت طائرته بدونه. أخبرته أنني على بوابة المطار، وسأراه بعد قليل. وعدتُ ورأيته. وعدتُ معه إلى البيت.

***
عادةً... في كل قصة أكتبها، يكون هنالك سطر محدد بعينه يتردد داخل عقلي يلح علىَّ أن أقوله واضحًا مجلجلاً، وهو ما أبني كل القصة حوله كي يكون له أقوى تأثير على من يقرأه وفي أفضل توقيت يكون فيه مستعدًا لتلقيه، وعادة ما يكون ذلك السطر هو الدافع وراء كتابتي لتلك القصة من البداية. أما قصتي هذه... لا وجود لأي شيء كل ذلك.

هذه القصة لي ... عليَّ أن أقرأها وأسعد بحدوثها. لذلك كان عليَّ أن أكتبها وأنا دافئة وهادئة هكذا، كي أخبر كل من يعرفونني ومن لا يعرفونني أننا في الأساس مصنوعون من أحلامنا الصغيرة مستحيلة التحقُق، وأننا عندما نتقبَّل عدم حدوثها برحابة صدر وننضج على تشبـُّثنا بالأشياء تشبـُّث الأطفال...يبدأ كل شيء في الحدوث من تلقاء نفسه.

وهذا كل شيء.