Sunday, August 7, 2016

الكابينة


الكابينة كما أعرفها الآن ستنتهي. وقد تبدأ في مكان آخر... لكنها كانت وستظل دائمًا الكابينة بعنوان 11 شارع سان سابا... عملتُ بالكابينة من 2010 لـ2013، وكانت فترة فاصلة ورائعة في حياتي.

أتذكر نفسي كما كانت من قَبل .. منذ ست سنوات. كنت في الثالثة والعشرين.

***
كانت أحلام يقظتي كلها واقعية ... لا تحمل أي بطولات أو قدرات خارقة. كانت دائماً أشياءً يمكنني أن أفعلها في الحياة الحقيقية ... إلا إنه دائماً كانت هناك عقبة ما. وكنتُ في بعض أحلام يقظتي الواقعية أراني أذهب في مكان ما. و لكن أنا سعيدة بذهابي سعادة هادئة وثقيلة لا تحمل أي حماسة أو انبهار. بل الكثير من الرضا والسكون... والاعتياد أيضاً ربما. الحلم الحقيقي هو أنني في طريقي لهذا المكان لا أفكر في قلق أمي، ولا في ساعة العودة إلى البيت. ولا أخشى أن تنفذ مني النقود. ولا أتفقد مظهر شعري من حين لآخر. وفي الحلم أستقر هكذا. أقرأ ربما، أو أستمع للموسيقى، أو أحلُّ شعري و أرسله حراً في الهواء القادم من الشباك. أقود سيارة صغيرة وبها أشيائي التي أحبها – الموسيقى التي أحب، معطر برائحة التفاح الأخضر، أُعلَّق على المرآة لعبة لطيفة صغيرة أحبها – وأستقر هكذا في ذهابي لهذا المكان الجميل الذي هو قلب احساسي بهذا الرضا، وهو الفرصة التي مكنتني من أن أكون بكل هذا الهدوء والتماهي كل ما هو حولي، والقدرة على أن أضيف شيئًا مني على كل شيء أمتلكه. كان حلماً ممتعاً، ما أجمل الساعات التي أقضيها في مثل هذا الحلم! وما أجمل ما أفعله في الحياة الحقيقية حين يراودني هذا الحلم.

لكن الحياة الحقيقية أروع وأكثر إدهاشاً من أي حلم يقظة. حين أنتبه فجأة وأجد أن ما كان في أحلام يقظتي منذ أعوام أصبح هو حياتي الحقيقية التي أعيشها بنفس تماهي وانسجام الحلم...وأكثر. تلك هي السعادة، والطعم الحقيقي لكل ما هو لذيذ. هذا هو بريق عيني ... و الأفضل لم يأتِ إليَّ بعد.

أعمل منذ أيام الجامعة ، وامتهنتُ أكثر من نوع من المهنات - بحثاً عن شيئاً ما. وأعملُ الآن في مجال التنسيق الثقافي في الكابينة في أحد تلك المهنات التي يصعب عليَّ أن أختزلها في كلمة واضحة على كارت شخصي. فأبادر جميع من يسألونني عن وظيفتي بابتسامة كسولة؛
-          إنتَ شفت فيلم مايكروفون بتاع خالد أبو النجا ؟
-          لأ ...
-          ابقى شوفه... أنا بقى باشتغل ف المؤسسة اللي الفيلم دة معمول عليها... مؤسسة بتساعد الفنانين المش معروفين و بتوفرلهم مساحة يعرضوا فيها فنهم.
... وقتها يفقد الشخص اهتمامه.

            كل مهناتي السابقة كانت ذات مرتبات جيدة نسبياً، ولكنها لم تكن تستحق الإرهاق الذي قد أصابني حتى ادخرتُ مبلغاً كان يحقق لي الاطمئنان والرضا بالمرتب القليل الذي أتقاضاه من مهنتي الآن كمنسق تنفيذي في الكابينة والتي تجعلني راضية تماماً عن نفسي وسعيدة جداً بما أفعله في حياتي. دون أن أنظر حولي. المقارنة نفسي بالآخرين من هم حولي من أبناء جيلي. وما يفعلونه في حياتهم، وما وصلوا إليه الآن...

أنظر حولي الآن و أرى الكثير من الفتيات اللاتي كنت أتمنى أن أحظى بمثل حريتهن، و أرى أنهم بعد أن تخطوا سناً معينة بدأت عائلاتهن في احكام قبضتهم اكثر مما مضى. خوفاً على مستقبل البنات وسمعتهن ... و احتمالات زواجهن. و جاء يوماً رأيتُ فيه أنني أنا من أُحسَد الآن على أمي وأبي وقبضتهما المعقولة التي أخرجوني منها تدريجياً.
-          الاسكندرية، 2011

هكذا كنتُ أكتب... في بدايات عملي في الكابينة.

***
            قد تجد الأمر مبالغًا فيه... لكن الأمر بالنسبة لي أشبه بأن أمر في وقت من الأوقات من أمام مدرستي القديمة، وأجدها لم تعد موجودة... أو لم تعد مدرستي. واختفت، واختفى معها أثر الفتاة التي كنتها في يوم من الأيام. مهما كنت أرى أنني أمضي في طريقي ويبدو أنني غير متأثرة بالأمر بحكمي بعيدة عنه.

            في فترة عملي في الكابينة كانت أصابعي لا إراديًا تجد مفتاح الكابينة من بين كل المفاتيح بسلسلة مفاتيحي، وأخطئ دائمًا وأستخدم مفتاح الكابينة وأنا أحاول فتح باب بيتي، أو سيارتي أو مدخل العمارة ... كانت الكابينة هي السر الخفي وراء حماسي في حياتي ومصدر جزء كبير من ثقتي بنفسي وقتها. كنتُ قد وجدتُ ضالتي في الحياة... أو هي من وجدتني. كنت أتواجد بها لأكثر من 12 ساعة يوميًا وتعلمت في هذه القترة شريحة سميكة من خبراتي في الحياة عمومًا... وكانت الكابينة شاهدًا على تراكم خبراتي، والتغيرات التي طرأت عليّ تدريجيًا منذها وحتى الآن.

            تعلمتً في فترة عملي بالكابينة كيفية معجنة الحوائط وصنفرتها، و"تستيك" الأرضيات، وكيفية "تدريب" ألوان الدهانات، وعزل الصوت، وكيفية مد أسلاك الكهرباء في الحوائط، وطرق أستبدال الأسلاك التالفة بأخرى جديدة داخل الحوائط. كيفية تقفيل العهدات، وكتابة تقارير الاجتماعات، وتقييم زملائي في العمل، ومصالحة زملائي في العمل بعد حدوث موافق تتوتر فيها الأمور... أطلقت زغرودة من قاع قلبي عندما انتهى العامل من دهان الحوائط والسقف بالللون الأبيض، بعدها بيوم، انتهى المبلط من وضع البلاطات الفخار بأرضية المكتبة... وكان شعورًا رائعًا بالتحقق يوم انتهينا من تركيب قطع البلكسي الملونة في مربعات الشباك.

كنتُ هناك قبل أي شيء... قبل وصول المعدات، قبل دخول الإنترنت، قبل الكهرباء، قبل مواسير المياة، قبل بناء التواليت، قبل السلم الحديدي الأزرق الذي يصل بالسطوح. وقبل تمهيد الأرضية، وحتى قبل المقاعد... كنت هناك أنا وقطعة كليم أحمر في أسود ولمبة سهاري كانت تضيئها سينما ريالتو قبل أن تُهدَم. أدبدب بقدمي مرتين كي أخيف الصراصير كي تعود إلى البلاعة التي كانت مفتوحة في وسط الممر. ثم أجلس بالكليم على الأرض. كبساط سحري أضع عليه حقيبتي وأوراقي. يمنحني الصبر على تأخر العمال على مواعيدهم، وتلكؤهم في التنفيذ، وخيالهم الواسع وقصصهم الكثيرة التي يسردونها الحصول على دفعات مقدمة من تكلفة خدماتهم. وكنت بطريقة أو بأخرى سعيدة بكل ذلك.

تعلمتً في فترة عملي بالكابينة أن أتوقف عن محاولة أن ألوي ذراع العالم كي يسير كما أريد. أن أستسلم. وقد يحدث وأن يفاجئني. ويقدِّم لي ما كنت أرغب فيه... فقط بشكل وتوقيت مختلفين.

تعلمتٌ أنه في حالة عدم اليقين أن أغلق عيني وأقذف بنفسي في قلب الأشياء مستسلمة للجاذبية. وأنه بالرغم من كل التخبُّط، لا توجد إصابات حقيقية. دائمًا هنالك درسًا مستفادًا، والكثير من خطوط الرجعة.

وأن الخوف شيء وارد بالرغم من كل الرعونة والتمرُّد. وأن الشعور الحقيقي بالأمان بالنسبة لي لا ينبع من داخلي، بل أجده دائمًا في الآخرين. وأن التوقيتات الجيدة هي ما تتركني مع الأشخاص المناسبين الذين دون أن يشعروا يقوون قلبي، ويجرئوني على اقتحام الحياة، وأن أبتعد بظهري عن الحوائط التي لا تحقق الحماية.

تعلمتٌ في فترة عملي بالكابينة أنه لا توجد مشكلة من أن أجعل يدي عُرضةً للإتساخ، ومن أن يتصبب جسدي بالعرق من كل ناحية، مادمتُ سأقضي وقتًا أطول في الاستحمام، وما دام كان في كل ذلك متعة ورغبة حقيقية في التحرر من أي هيئة منمقة.

قابلتُ أهم قصة حب في حياتي في الكابينة... وبالرغم من أنه كان يقول لي أن فرصة اللقاء كانت ستظل كبيرة حتى إذا لم أكن أعمل هناك. إلا أنه في عقلي، أجد أن هذه الطريقة كانت الأنسب والأجمل... لأنها كانت القصة الحقيقية التي حدثت بالفعل. وبعد انتهاء قصتنا معًا بعد انتهاء عملي بالكابينة بسنوات... ظللتُ أشعر بطمأنينة ما، لوجود الكابينة كشاهد على كل شيء.

أقلعتُ عن التدخين في الكابينة، وكنت أتجاوز كل لحظات الضعف والتهديد بالانتكاس بالنزول إلى الستوديو، وإغلاق الباب عليّ والاستماع إلى أغنيات
Lady GaGa
بأعلى صوت، بينما العمال يعملون في المكتبة وهم خائفون من أن المجنونة التي تعمل بالمكان تحضر عفاريتها في البدروم.

***
إغلاق الكابينة قد يكون بداية جديدة بالنسبة للبعض، كما قد لا يمثل أي شيء بالنسبة للبعض، لكن بالنسبة لي... إغلاق الكابينة كمكان ملموس، أشبه برمز لاختفاء أثر هذه الفتاة التي كنتها. وتبقَّى منها كل ما تعلمته هي خلال هذه الفترة، كل طاقتها التي بذلتها حتى أصبحَت يومًا بعد يوم أشبه وأقرب للشخص الذي أنا عليه الآن. وبالرغم من أنني كلي امتنان لكل ذلك... إلا أنني بداخلي جزء يحزن على زوال أثري من هذا المكان... وزوال المكان بالكامل.

لي صديق فلسطيني – مصري أخبرتني جدته الفلسطينية أنها تحمل مفتاح بيتها في حيفا حول رقبتها منذ هاجرت إلى مصر في أوائل الأربعينيات. على أمل أن تعود إلى بيتها في يوم من الأيام، ورغم أن بيتها قد هُدِم، إلا إنها لا زالت تحتفظ بالمفتاح حول رقبتها كآخر ما تبقى من بيتها الحقيقي، مهما كانت قد تقدمت في حياتها وسكنت وعمَّرت بيوت أخرى.

لا زال معي أول مفتاح لباب الكابينة. الذي كانت تجده أصابعي كي تفتح به باب بيتي وباب سيارتي ومدخل عمارتي. وسأظل أتذكر الجملة التي قالها لي الكثيرون وقت عملي هناك عن لوحة الفتاة التي تجلس على الوزة السوداء على باب الكابينة... وأنهم رأوا أن هذه الفتاة تشبهني. وأحب أن أصدق ذلك.

كانت وستظل دائمًا الكابينة بعنوان 11 شارع سان سابا. عملت بالكابينة من 2010 لـ 2013، وكانت فترة فاصلة ورائعة من حياتي. كانت الشاهد على تغيراتي وفترة من رحلة نضجي كشخص، والمستودع لدروس لم أكن لأتعلمها في أي مكان آخر. أما الآن، فأظن أنني مستعدة للإبحار على ظهر وزتي السوداء، قدمي في الماء، وأحمل مفتاح الكابينة حول رقبتي، وأحمل في قلبي كل اللحظات التي لمستُ فيها طعم السعادة الحقيقية النابعة من اقتناعي بما أفعله في حياتي، وفيما أستثمر طاقتي.

سان سابا كومبليه... لكن الفتاة ستجد لنفسها بابًا جديدًا ترسى عليه وتجلس وتشهد تغيرات أخرى على حياة آخرين.

***
اللوحة للفنان/ أمير رزق
فوتوغرافيا: محمد النجار