Friday, October 5, 2012

العلالي


لم أعد أشعر بأي كدمات أعلى رأسي ، لا يحدثني عنها الآخرون ، ولا أرى قلقهم حول كدماتهم هم شخصياً ... زال الألم ، زالت الصدمة الأولى ، لم يتبقى سوى تلك النظرة التي ترتسم على وجه من حرقت يدها في المطبخ بعد أن زال ألمها و فزعها و جلست تنظر للحرق على يدها

 أرى خيبة الأمل ظاهرة على وجوه الجميع ... لكن أرى أنهم ، على اختلاف شخصياتهم ، يظهرون خيبة أملهم كل بطريقته . البعض كثيرو الشكوى ، و البعض شديدو الفجاجة ، لكن أكثرهم استنزفهم الغضب و لم تعد تفوتهم فرصة للشماتة

 أما أنا ، فأميل إلى العزلة  ، و أنزوي في المناقشات و أنسحب منها بهدوء و لم أعد أرى جدوى من هدر طاقتي فيها. و لم أعد أشاهد التلفزيون ، و لم يعد استدراجي (أو محاولة استفزازي)  للحديث حول كل ماحدث سهلاً... أهم شيء أنني صرتُ أصدق أننا نصبح أكثر لطفاً بعد الكثير من الإحباطات

 صرتُ أتوجه بخالص اهتمامي و طاقتي في اتجاه كل ما أسميه "حقيقي" -  ترتيب دولابي ، أدراج شراباتي و ملابسي الداخلية و مستحضرات التجميل . أمسح المرايا . أعيد ترتيب المكتبة ، أفسح المجال لنفسي كي أجلس و أضع أغراضي في نظام . اشتريت أباجورة جديدة ، أقرأ كتباً جديدة ، أبتسم في وجه الأفكار الجديدة. و أطهو وصفات جديدة ... حتى أنني رتبتُ أسبوعي ترتيباً جديداً فيما يتعلق بمواعيد الجامعة. لم أعد أستطيع أن أميز بين ما هو طبيعي ، و ما هو غريب ، و ما هو عادل ، و ما هو غير مقبول ... صرتُ أتقبل كل شيء . كل ما أحتاجه هو عدة ساعات بمفردي في غرفتي كي أستعد لتفادي التذمر. غرفتي ، التي هيأتها كي تحتويني بالشكل الذي يرضيني

غرفتي ... عنبر البنات كما يقول لنا الجميع. أكبر غرفة بالمنزل. في الماضي كانت تحوي ثلاثة أسرَّة كبيرة و ثلاثة مكاتب لي و لأختيَّ ، قطعة موكيت حمراء على شكل قدم كبيرة ، سجادة زرقاء كبيرة مرسوم عليها ولد أصهب لديه نمش على خده يسبح في أعماق البحر.و دولاب كبير يصل للسقف للملابس الشتوية و الملابس الداخلية ، و ضلفة علوية لتخزين الوسادات و الملاءات و الأغطية ، و دولاب أصغر للملابس الصيفية. و هو نفس الدولاب الذي كان موجوداً في غرفة أمي و هي في مثل عمري . و كان دولاباً أقصر من الآخر ، و كنتُ أتسلق فوقه لأختبيء و أفاجئ إحدى أختيَّ ... و مع الوقت وضعتُ لنفسي الوسائد و المساند و بعض لعبي و بعض مجلات ميكي و جهاز الجيم بوي و أصبحتُ أقضي معظم وقتي فوق الدولاب . حتى أنني أحياناً كنتُ أحضر كتب و كراسات المدرسة و أؤدي الواجبات المدرسية في "العلالي" ... هكذا أطلقتُ على المكان بيني و بين نفسي

و لما كبرنا ، و كنتُ على مشارف دخول الجامعة ، جددنا الغرفة و تم التخلص من كل شيء. الأسرَّة ، المكاتب ، الدولاب الكبير بعد أن تهالك ... أما بالنسبة للعلالي فقد تم شحنه إلى المصيف الهادئ البعيد بعنبر البنات هناك ... بعد أن تم تلميعه و تجديده و تركيب مرآة جديدة داخل ضلفته. ولم يزل يحوي الملابس الصيفية بينما تستخدم الضلفة الأخرى لتخزين الأغطية و الوسادات . و في الدرج الوحيد أضع المايوهات و بونيهات السباحة و مستحضرات الحماية من حروق الشمس . و فوقه وضعتُ جهاز كاسيت ، و صندوق جهاز الريسيفر ، و مساحة فارغة أضع عليها حقيبتي التي أسافر بها إلى المصيف

مصيره أن يحمل بهجة الملابس الصيفية مع أمان و سكون الانعزال
 
و رغم أنني لم أعد أصعد للعلالي ، لكنني أتمكن من أن أوفر لنفسي تلك العزلة التي تبقيني هادئة و لطيفة ، غير سهلة التجريد من مواطن قوتي . لا أتوقف كثيراً أمام كل ما يحدث لي. قادرة على أن أُظهر خيبة أملي بتوجيه كل طاقتي نحو كل ما أراه حقيقي -  كترتيب دولابي ، أدراج شراباتي و ملابسي الداخلية ....  بلا شكوى ، و بلا فجاجة ، و بلا بحث عن فرص للشماتة
 
---
لوحة لـ مـيـريـت مـيـشـيـل

No comments:

Post a Comment