Saturday, April 19, 2014

عُــمـَـر


سألوا فيرجينيا وولف ذات مرة عن السبب وراء موت أحد الشخصيات في معظم رواياتها؟ و ردت بأنه على أحدهم أن يموت كي يقدِّرالآخرون قيمة الحياة
ماتت فيرجينيا وولف ، و من بين كل الطرق التي كان من الممكن أن تختارها ... اختارت الغرق؛ ملأت جيوب معطفها بالصخور ، و قفزت في النهر

 لا مكان للشاعرية فيما أريد أن أقول. أجد في الجدية الكثير من الطمأنينة هذه الأيام
***
هنالك أيامًا تمرعليّّ أشعر بها و هي تغيرني و تغير مصيري

كان أول يوم من أسبوع سأقضيه مع مجموعة لا أعرفها جيدًا ولا يعرف أحدنا الآخر ، لكنني استطعتُ أن أشكـِّل فكرة عنهم كمجموعة ، و أقول أنني كنتُ أشعر أنني لم أكن وسط غرباء
  
في المجموعات الكبيرة التي لا أعرفها ، عادة ما أميل إلى عمل الأشياء بمفردي ، بخبرة قديمة لدي في أن الأشياء التي تسعدني  نادرًا ما تستهوي أحدهم؛ كنت أفكر في الذهاب إلى السوبر ماركت لشراء بعض الأغراض بطريقتي البطيئة في التبضُّع ، كنت سأتسلل في هدوء إلا أنني فكرت أن بعضهم قد يحتاج شيئـًا من هناك ، فعرضتُ اقتراحي ، و عرض البعض اقتراحات أخرى ... و رست الخطة على أننا سنذهب للسوبر ماركت ليلاً على أي حال ، و أننا سنذهب الآن إلى الشاطئ

في أي ظرف آخر ، كنتُ سأذهب إلى السوبر ماركت كما خططتُ ، ثم ، إن تبقى لدي وقت ، سأبحث عن الجميع و أعرف مكانهم و  أقرر حينها إن كنتُ سأذهب إليهم

التغيير الأول الذي غير مصيري ذلك اليوم هو أنني وجدتُ نفسي أميل إلى أن أغير خطتي و أذهب إلى الشاطئ
.
 .
أحب السباحة قدر حبي للقفز على الترامبولين أو ركوب المراجيح - حركات لطيفة ، تنفض عني الكسل و تـُشعـِرني بالخفة و السعادة لفترة ما ، لكن دون شغف حقيقي و مستمر. ليس قدر سعادتي بالجلوس على الشاطئ ، و العبث في الرمال بحثاً عن كنوزصغيرة ، لا قيمة لها إلا في كونها وجدت يدي في الرمال

التغيير الثاني ، هو أنني ، ذلك اليوم ، قررتُ السباحة
أفضل السباحة في البحر عن حمام السباحة، إلا إنني أحترم البحر ، و كانت لدي تجربة مع كيف يمكن أن أبالغ في ثقتي بنفسي ، و كيف يمكنني أن أستخف بقدرته على ابتلاع الأشياء و الأشخاص

الآن ، أنا في البحر الأحمر مع هؤلاء الأصدقاء الجدد ... المياة منعشة و نظيفة و ضحلة ... و الرمال ، لم تكن كالرمال التي أعرفها ، كانت عبارة عن حصوات صغيرة من الصخور ، خشنة و غير مريحة تحت القدم ، و تنزلق بسرعة من فوق بعضها. كانت نوع من أنواع الـ"بلبطة" اللطيفة ... التي أحببها. بعد دقائق قررنا أن نخرج من المياة و نجلس على الشاطئ نشرب الشاي ... الشاي الذي لن نشربه كلنا مع بعضنا البعض مرة أخرى أبدًا

سأل أحدهم عن "عمر" ... عمر كان أحد أفراد المجموعة ، و كان معنا ، لكنه غير موجود حولنا الآن ... و كوننا لا نعرف بعضنا جعلنا جميعاً نظن أن عمر موجود ، لكننا لا نلاحظه ... لعله يتحدث في الموبايل ولا يسمعنا ننادي ، لكن الموبايل موجود مع أغراضه. لعله عاد إلى الفندق كي يفعل شيئاً ما ، لكن شبشبه و الـ تي شيرت الذي كان يرتديه موجودين وسط أغراضه . لعله خرج من البحر و ذهب للتمشية ، لكن نظارة نظره كانت موجودة و هو لا يسير بدونها . انتهيتُ من اللبس ، و أنا أحاول ألا أفترض الأسوأ ، و أنه يمكنه أن يكون في أي مكان ، و كونه شخص هادئ يجعله ينسحب من الأماكن دون أن يلاحظه أحد . عمر خرج من المياة

فكرت أنه في أسوأ الأحوال ، لن يغرق أحد في مثل هذه المياة الضحلة ... من الممكن أن يجرفه التيار بعيدًا . وأنه الآن ينادي و يشير لنا كي نراه ، لكننا لا نرى جيداً لأن الشمس في أعيننا. ففكرتُ في اليوم الذي كدتُ أن أغرق فيه ، و وظـَّفتُ كل خبرتي في تلك اللحظات كي أتمكن من تخمين أين سينجرف عمر الآن

نظرتُ إلي المياة و أين تتجه ، و الهواء و أين يندفع ، و أجريت بعض الحسابات في عقلي ... إن كان عمر فقد السيطرة على نفسه ، فسيكون موجودًا في تلك المنطقة. و أنه حتماً سيظهر و يختفي من أمامي لأن البحر يعلو و يهبط قليلاً . أركز ، أظلل عيني ، أنصتُ بحرص شديد . أينما كنت يا عمر ، أنا أفكر الآن بعقلك ، و أعرف كيف تشعر ، و ما تحاول أن تفعل

نزل الغطاس يبحث عنه ، و أنا أفكر في أن كل ذلك مضيعة للوقت ، و أنه قد خرج من المياة على أي حال. و أفكر في كـَم الضحك الذي سنضحكه حين يظهر هو فجأة من ورائنا و يسألنا عمن نبحث !
 بعدها بخمسة عشر دقيقة ،  ظهرت رأس الغطاس ... خلع قناع الغطس بيد ، و كان ممسكاً بـ عمر من قدمه بيده الأخرى ، لونه أبيض تمامًا ... و كان مقلوبًا رأسًا على عقب تحت المياة . قفزتُ في المياة بفستاني ، و حملته من رجليه بينما حمله الغطاس من تحت ذراعيه

آلاف الأفكار في لحظات قليلة ... فكرت في كل المقالات التي قرأتها عن طرق الإنعاش القلبي الرئوي للغرقى و من أصابتهم سكتة قلبية ...  فكرتُ في أنه كان تحت الماء كل هذا الوقت الذي كنتُ أنظر أنا من فوقه ... فكرتُ فيما يقولونه عن العروق ، و أنه لطالما العروق موجودة و مرئية من على سطح الجلد ، فلازالت الدماء تجري بها . نظرت لى العروق في قدمه ؛ أستطيع أن أراها، ضغطتُ عليها استجابت ثم استعادت شكلها مرة أخرى ...

قام الغطاس بعمل الإسعافات له ، قلبه على ظهره و بدأ بالضغط على صدره بقوة  ، ضغطة ، و الثانية ، و الثالثة

فكرت في كل ما قرأته عن الغرق ، و أنه من أكثر طرق الموت سرعة و لا يشعر الغريق بأي ألم ، و لذلك كان الغرق هوة من أولى طرق الإعدام التي طبِّقت على النساء ... لأنها أكثر الطرق رحمة. و فكرت أنني سأخبر عمر بذلك بعد أن يفيق

بدأ الماء يخرج من فمه و أنفه ، أبشرتُ . و انتظرتُ المشهد الذي يشبه مشاهد الأفلام - أن يشهق عمر ، و يكح ، و ينظر حوله بدهشة... و الجميع يتنفس الصعداء ، و يحمد الله. لكن ذلك لم يحدث ، ظلت المياة تخرج من فمه و أنفه ، مياة تحمل معها رمال ، و قطع من القواقع المكسرة الصغيرة ، ثم بدأ لون المياهة يتغير ، و يميل إلى الإحمرار . ثم أصبح ماءً أحمر

حرك الغطاس رأسه بيأس ، بينما استمر في الضغط

كنت أدعو الله بصوت مسموع ، أقول أن الله قادرًا على أن يعيده ... حتى بعد أن شحب تمامًا ، و بعد خروج هذه الكمية من الدماء من رئتيه  و هذا الهمود الذي هو فيه ، و نظرة اليأس الظاهرة على وجه الغطاس ... من الممكن أن يكون مخطئاً ... الله قادر على أن يعيده ... من أجل أمه التي لا تعلم الخبر الذي سيصلها بعد قليل

وصلت الإسعاف ، و حملوه داخلها ، و نحن في السيارة التي خلفها ، أنا لم أفقد الأمل ، و لم أتوقف لحظة عن الدعاء ، لكن جزءً مني كان مصدومًا بسرعة الحدث ... و كل ما كنت أفكر فيه وقتها ، هو أنه لم تكن لديه الفرصة كي يعرف أن لحظته قد حانت ... و أنه ربما آخر أفكاره كانت في أن الأصدقاء حوله حتماً سينتشلونه حالاً من المياة و يسألونه عما جرى له ... و الفكرة جلبت الدموع إلى عيني ... أننا خذلنا شخصاً ما ، و أنه ميت الآن على طاولة في مستشفى ، بعيداً عن أهله و عمن يحبهم

***
عـُمـَر ... في اللغة العربية هو وصف يوصَف به الشخص طويل العمر

غرق عمر في هذا المسطح الضحل ... كان عمره عشرون عامًا أو أكثر قليلاً. فكرت في أن ما حدث لم يكن حادث ، ما حدث كان خطة مرسومة و مصممة مسبقًا من أجله كي يأتي إلى هنا  ... و قبل حتى أن ينجز ما جاء من أجله ، يموت . لم يكن لأي شيء أن يقف في طريق هذه الخطة ... و الفكرة جلبت الهدوء إلى قلبي

ما أعرفه جيدًا هو أنه في حياة كل منا مواضيع معلَّقة تنتظرنا كي ننظر فيها ، أو أن نحسمها ، أو أن نغيرها ... ما كنتُ أفكر به هو أن عمر لم تكن لديه الفرصة كي يحسم مواضيعه المعلَّقة

التغيير الثالث الذي غير مصيري ذلك اليوم هو أنني عدتُ إلى غرفتي ، أرتعش بفستاني المبلل ، التقطتُ موبايلي و أجريت مكالمة للرجل الذي أحب... أجريت المكالمة التي كان هو بانتظارها منذ شهور ... لم أخبره بما حدث ، لكنني حسمتُ مواضيعنا المعلَّقة و قلت له الخلاصة وراء كل ما نتصارع بسببه منذ بداية علاقتنا ... و كان مدهشًا كيف جعلني موت أحدهم قادرة على اختزال أكثر الأشياء تعقيدًا بيننا في جملة قصيرة و بسيطة حملت له السعادة. و جعلني قادرة على أن أزيح أثقالاً عن رأسه و رأسي ، و أن أقرر أن أنهي الصراعات ، و أن آتي من أقصر الطرق ، و أن أضرب بكل المشوشات عرض الحائط
.
.
على أحدهم أن يموت ، كي يقدِّر الآخرون قيمة الحياة

كان ذلك منذ شهور، لكنني تغيرتُ كثيرًا و لم أعد كما كنت. التغيير الأكبر الذي أراه هو أنه رغم كل ما قد يشعر به الإنسان من فزع و خوف من يشهد موت مفاجئ كهذا إلا إنني لم أشعر بالخوف من الموت... شعور صادق بداخلي أخبرني أنني مستعدة للرحيل ... إن حانت لحظتي الآن ، فأنا مستعدة في أي وقت. لكن يأكلني القلق على أهلي و أصدقائي و من يحبونني ، و على ما سيشعروا به بعد رحيلي. خفت عليهم لأنني لن أكون موجودة بجوارهم كي أساندهم. و غيرني ذلك و جعلني إلى حدٍ ما أقل حدة معهم ، و أقل قابلية للاستجابة للمشكلات
عندما أنظر إلى احساس الفقد الذي شعرتُ به بعد فقد عمر الذي أعرفه منذ ساعات ، و لم أتحدث معه سوى بضع الكلمات المقتضبة، جعلني قادرة على تصوُّر خسارة أكبر
 .

أنا أدعو لـ عمر بصفة دورية ، و أشكره على التغيير الذي تسبب فيه في شخصي، و على كونه أصبح جزءً هامًا من حياتي، و أتذكر أهله و من يحبونه من وقت لآخر ، و أتمنى أن يكونوا قد وجدوا طرقًا تهوِّن عليهم الفراق
.

هنالك أيامًا تمرعليّّ أشعر بها و هي تغيرني و تغير مصيري ، و تؤكد لي أن ما يقولونه عن أنه هنالك خبرات قصيرة قد تتسبب في أن تغير حياتك للأبد ... صحيحًا
 سمعتُ من صديقة لي فقدت زوجها أنها تشعر أنه أقرب لها بعد موته من حياته ، و كأنه بموته قرر أن يصبح معها يسكن عقلها و يستمع إليها طوال الوقت... و أنا وجدتُ في هذه الفكرة الكثير من الدفء ، و أحب أن أظن أنها حقيقية
***
فوتوغرافيا: سارة سويدان *