Saturday, July 12, 2014

مدينتان. واحدة أحبها، و الأخرى تحبني



ألعب في الاسكندرية لعبة كنت ألعبها وحدي مرارًا و تكرارًا و أنا طفلة في بيتنا - أقف بظهري ملاصقًا لحائط في أول البيت، و أندفع بكل سرعتي إلى أن أصل إلى الحائط الأخر على الطرف الآخر من بيت. و بعدما أصل، أعود بكل سرعتي إلى الحائط الأول... الأمر كله لا يأخذ أكثرمن ثوانٍ. و وقتها لم يكن لدي غرض من اللعبة إلا ربما أنا أعد خطواتي في كل مرة، أما الآن فأرى أنني كنتُ أحاول التأكد بنفسي من أنه لا مكان للهروب و لا طريقة للاختراق، هنالك فقط هذه المساحة. كل الحياة ستحدث بين حائط و آخر. و بالرغم من أن المساحة لا تعد واسعة، إلا أنها تسع الكثير من المرح و التجارب
***
الآن... يمكنني أن أسمِّي كل شيء باسمه الأصلي ، و أن أرى كل شيء بلونه الحقيقي. و أنا في مثل هذه الأوقات من الانتعاش – ابتسم برضا في المواصلات و سائرة بين الناس في الطرق. أطهو الطعام بالكثير من التأني، و أستحمُ بالكثير من الهدوء ... أظن أن الطريق يسير بي في الاتجاه الذي كنت أحلم به في أحلام يقظتي. لكن الحياة الحقيقية أروع و أكثر إدهاشًا من أي حلم يقظة

في حياتي مدينتين؛ واحدة أحبها، و الأخرى تحبني

المدينة التي أحبها، غارقة في الانطباعات المسبقة المأخوذة من الأفلام و الأغنيات و الأشعار، و رغم حبي لها، لم أكتب عنها كلمة واحدة حتى اليوم. و قد مللتُ من كليشيهات أي بلد أجمل من الأخرى و أي أناس أفضل و أي حياة أجمل ... القاهرة أم الإسكندرية

الاسكندرية هي المدينة التي أحبها. لكني لا أحب قراءة أعمال الغزل فيها و النوستالجيا الحالمة حولها. و لا أعتقد أنني يمكنني الكتابة عنها هكذا بنفس بساطة الآخرين الذين لم يعيشوا بها. ولا بنفس شغف هؤلاء الذين يعرفون المدينة جيدًا، و يتنقلون بين أحيائها الشعبية و الراقية و يقدرون على رؤية شخصية المدينة بحق كما لا أراها أنا. لكن ما يمكنني أن أقوله هو أن هذه المدينة كل شخص فيها يراها من زاويته

و من زاويتي أنا ... أرى أن الإسكندرية مدينة متعالية على من يعيشون فيها و ترى أنها تستحق من هم أفضل منا، و بطريقة أو بأخرى، أرى أن هذه المدينة قادرة على أن تستغنى عنا جميعًا، و أن تنفض نفسها و تقذف بنا جميعًا في مياة البحر

في هذه المدينة، رغم صغرها، إلا إنني لا أشعر بأنني محبوسة. بل أشعر و كأنني أقف على نقطة ارتكاز سِن البرجل على الورقة - في منتصف الدائرة، على مسافة متساوية من حيثما أردتُ الذهاب

 لم أزل ألعب لعبتي حتى الآن في تحركاتي في المدينة... أعطي ظهري للبحر، و أتوجه بمشاويري إلى أبعد ما يمكنني أن أذهب... الطريق الصحراوي، أو أن أتوغل فيما بعد شارع أبي قير و شريط الترام و شريط القطار و أعبر بنفسي إلى الناحية الخلفية من المدينة، إلى أن أصل إلى أماكن نبذتها المدينة. فأعطيها ظهري و أتوجه مرة أخرى إلى البحر، و في الطريق أحسب الدقائق، و لترات البنزين أو جنيهات المواصلات، و أذاكر الطرق جيدًا، و ألاحظ بسهولة كل لافتة إعلانات جديدة، كل إشارة مرور جديدة، و كل صندوق قمامة جديد، كل مطب جديد

أخذ الأمر مني الكثير من الوقت و التركيز قبل أن ألاحظ أنني حينما أكون عند أقصى درجات و سعادتي و استمتاعي بقضاء وقتي في الإسكندرية، أميل إلى العزلة، و أن أبعد الآخرين عن طريقي... أقود ببطء شديد. أو أسير بسرعة بالغة، أمارس الجري وحدي، لا أنظر لأحد، لكن أنظرحولي كثيرًا أتأمل الأماكن كأنني أراها لأول مرة. أستمعُ إلى موسيقى عالية، غير راغبة في سماع أي شيء، .غير راغبة في التفكير في أي شخص .. فقط أريد أن أنظرحولي و أن أتحرك

بينما القاهرة قرَّبت عقلي و قلبي من كل من أحبهم و أفتقدهم ... استحضرهم و اعيد في ذهني حوارات دارت بيني و بينهم، و تمر أحداث من حياتي أمام عيني تمامًا كما يحدث في الأفلام. القاهرة جعلت عقلي يشرد طويلاً و ينغمس و يتشبث أكثر فأكثر بالذكريات الجميلة

Indept - مدين ة

أنا مدينة للقاهرة بالكثير مما تعلمته عن نفسي ، و بالأكثر مما عرفه الآخرون عني -  تعلَّمتُ أنني أصلح للحياة الخشنة ، و جيدة في التأقلم مع الظروف المرهقِة . إلا إنني أيضاً لاحظتُ أنني لا أحتمل شكوى الآخرين ، و قليلة الصبر أمام دائمي الشكوى من الناس – من المواصلات و الزحام و الطقس و الوظائف و الأسعار ... و أرى في هؤلاء أعداءً لي ، يحاربون روحي و يثقلونني بالأحمال. و مع الوقت نمَّيت سلوك و تكنيك يستبعدهم و يتجاهلهم كي أحقق الحماية لروحي و مزاجي من كل هؤلاء. و القاهرة مدينة مليئة بالأعداء

لكنها كانت مرحة معي كما كنت رحبة الصدر و مهذبة و متمهلة معها - أحتمل مفاجآتها بهدوء و ابتسامة و كأنني أتعرَّف عليها ، و لم أبادر بإصدار الأحكام. تواضعتُ أمام المدينة التي يأتيها الآخرون من الإسكندرية و بمنتهى التعالي يبدون الشوق لنسيم البحر و يتململون من الزحام... دون إعطاء فرصة  لها لتـُبدي ما تقدر على منحه. و هي مدينة كريمة بحق. تواضعتُ أمام القاهرة ... لذلك لم تكن "قاهرة" معي . و لم تؤذني حتى بأقل الدرجات. و صرنا أصدقاء

 لا أدعي أمام الآخرين أو أمام نفسي أنني أعرفها جيدًا. لكن ما أعرفه عنها، أعرفه عن ظهر قلب؛

  أعرف أن الطرق إلى أي مكان إما أطول بكثير مما أعتقد ، أو أقصر بكثير من مبالغات سكانها. و طقسها إما أخف بقليل من مبالغات الجميع، أو أشد حرارة مما ظننتُ أنه بإمكاني أن أتحمُّله. خلاصة القول، كان عليَّ ألا أستمع لرأي أحد فيما يتعلق بالتحركات بها؛ فلا أحد من سكان هذه المدينة يحبها و يحب أن يتحرك بها، لم يعطيني أحد رأي أو طريقة موضوعية تسهل عليَّ حياتي بها. فلا أحد يعلم مثل هذه الأشياء هنا

 لكنني أحب العديد من الأشياء في القاهرة... أحب ذلك الشعور بالطمأنينة التي تنتابني عندما أرى الزحام في كل مكان، كل يوم... أرى في هذا التكرار اليومي شيء من الاستقرار، و تمكنتُ من الاعتياد عليه، و استغلاله لصالحي... أصبحت أؤجِّل كل المكالمات التي عليَّ أن أجريها إلى الوقت الذي يضيع في الزحام، أتفقَّد إيميلاتي و أقرأؤها و أرد عليها. و أستمع إلى كل الأغاني الجديدة التي أرغب في سماعها دفعة واحدة... بالإضافة إلى أنني أصبحتُ أُعِد السندويتشات كي أتناول إفطاري في الزحام. وجدتُ في كارثة الزحام المروري وقت يجمعني بنفسي كي أنجز فيه الأشياء التي أرى أنها تضيِّع وقتي

 أحب فكرة أنني يمكنني أن أترك شعري دون أي نوع من أنواع الربط ودون وضع أي نوع من أنواع المستحضرات، و سيظل على نفس الشكل و أحيانًا يتحسَّن. كأنني أسير تحت سيشوار كبير يجفف شعري كلما بدأت في التعرُّق

 أحب أنني بعد غسيل ملابسي، يمكنني أن أضعها على الحبل و بعد ساعة أو أقل أُطِل عليها و أجدها قد جفت. ليس هذا فقط، بل إن نقص حركة الهواء يجعل الملابس تـُرفع من على الحبل مكوية و دافئة و جاهزة للاستخدام مباشرة.

 و أحب أنني عندما أسير في الشوارع، تأتي إلى ذاكرتي تلك الثواني التي أفتح فيها الفرن فيلفح الهواء الساخن في وجهي، و أمدُ ذراعي في قلب الصهد بمنتهى التركيز كي أصل لقلب قالب الكيك، و أغزه بطرف السكين لأعلم إن كان قد نضج بالكامل أم لا.... هذه الثواني ممتدة طوال ساعات تنقلي في القاهرة

و أحب كشري التحرير. الموجود في شارع التحرير، و ليست الفروع الأخرى ذات اللافتات الخضراء، و الموجود منها في الإسكندرية. ولا أجد له بديل

كما أحب جدًا لافتات الإعلانات المدهشة بالغة الضخامة ... تفرض عليَّ أن أنظر و أمعن النظر في وجوه الممثلين و مقدمي برامج التوك شو - أفكر فيما يفكرون، و أخمن قصص المسلسلات قبل أن تبدأ

لكن أجمل ما في القاهرة ... هو أنها تضربني على رأسي بمطرقة من حديد، فعندما أعود إلى البيت و أستحم و أنام، أستيقظ لأجد نفسي قد نسيت تمامًا كل ما حدث لي. و أستيقظ كل يوم لأبدأ من جديد

في النهاية ... القاهرة تتطلب الكثير من الطاقة، و الوجود فيها بالنسبة لي يحتاج إلى دوافع قوية (كرغبتي في الدراسة)، لكن بانتهاء الدراسة انتهت طاقتي، و كادت القاهرة أن تقضي عليَّ في الأيام الأخيرة. لا حنينًا ولكن لكونها مدينة لا تشبهني في شيء... لا أرى الكثير من بائعي الخضروات الجائلين، ولا من ينادون على الروبابيكيا... حتى إنني غادرت من القاهرة قبل شهر رمضان بيوم واحد و لم أرى زينة رمضان مُعَلَّقة ... على الأقل في الأماكن التي كنت أتحرك بينها من وسط البلد، و الهرم، و السادس من أكتوبر، و مدينة نصر

عدتُ إلى الاسكندرية في الوقت المناسب كي ألتقط أنفاسي، و كي تستقبلني بهواء بارد، و بالكثير من الرطوبة التي جعلت شعري يدرك أصوله الإفريقية... و وقت وصولي إلى الكورنيش في طريقي إلى بيتي، ثقبت رائحة البحر أنفي، و صدَّقت كل ما يقوله القاهريون عن رائحة البحر. بلا رومانسية و بلا أوهام صنعتها الأفلام و الأشعار

وصلتُ بيتي، لأجد إضاءة الغرفة تمامًا كما أحبها، و أغراضي موضوعة على الحوض في الحمام... تأخرتُ قليلاً قبل أن أتذكر شكل فرشاة أسناني. أخطأتُ و مددتُ يدي إلى مكان آخر كي أشدُ السيفون. فاجأتني المياة التي تنزل باردة و منعشة من الصنبور في كل وقت. نظرتُ في الأطباق قليلاً كي أتذكرها قبل أن أضع لنفسي الطعام، تأملتُ الملاعق التي قد نسيتُ شكلها. وجدت يدي برطمانات الملح و التوابل سريعًا دون حاجة لقراءة ما هو مكتوب على البرطمان. سريري، دولابي، كتبي في مكانها، فيشة شاحن موبايلي في مكانها القريب من يدي

وضعتُ يدي بالضبط على ما أحبه في الإسكندرية... رغم الرطوبة صيفًا، و كآبة البرد و المطر شتاءً، و رغم الملابس المغسولة التي لا تجف، و إن جفت و نسيتها على الحبل ليلاً، استيقظ صباحًا لأجدها قد بللها الندا مرة أخرى. و رغم كارثة زحام المرور التي أرى أنها أفدح تلك التي في القاهرة. رغم أن المضايقات و المعاكسات التي تحدث لي في الإسكندرية أكثر من تلك التي تحدث لي في القاهرة... إلا أن الاسكندرية هي المدينة التي صنعتني، و جعلت مني الإنسانة التي أنا عليها الآن، و أنا أيضًا صنعتُ فيها و منها تاريخًا حافلاً من الذكريات و الخبرات التي لم أزل أحصد ثمارها حتى الآن

 أحب الإسكندرية لأن في كل مكان أمر به، هنالك ذكرى تجمعني بشخص ما، و هذا في حد ذاته يجعلني أُفـَضِّل أن أكون هنا ... بصرف النظر عن وجود أو غياب أصحابها. هنالك شيء أضفته أنا إلى هذا المكان، و أحب دائمًا أن أكون بالقرب من الأماكن التي أضفتُ إليها جزءً مني

 و الأمر لا يتعلق بهدوء المدينة، و بطء إيقاعها، ولا بسهولة التحرك فيها، ولا للأمر أي علاقة من قريب أو من بعيد بالبحر و لا بالكورنيش و لا بالنسيم العليل و لا برائحة الملح

---

* فوتوغرافيا: فادي قدسي
https://www.facebook.com/fadikoudsiphoto?fref=ts