Monday, September 14, 2015

السفر أمر مبالغ فيه



عندما يسألني أصدقائي الجدد هنا عما إذا كنت افتقدتُ بلدي، أفكر للحظة قبل الرد ...


هنا... أنا بخير معظم الوقت، أستمع لأغنيات عبد الوهاب ونجاة الصغيرة و أدندنها بانسجام. ومخزون الحلاوة الطحينية معي يتناقص يوميًا، وأضع كريم الوقاية من الشمس بكميات تناسب الشمس الحارقة هنا.

تغير كل شيء حولي- المناظر التي تمر بجواري من شبابيك المواصلات، والأحاديث التي تدور في المطاعم، تحيات الجيران في الصباح والمساء، والملابس التي أراها في فاترينات المحلات، والنظرات في عيون المارة في الشوارع، وشكل النقود في المحفظتي، شكل قوابس الكهرباء في الحوائط، وإعلانات المنتجات في التلفزيون... حتى الطريقة التي أنطق بها اسمي كي يعرفه الآخرون بسهولة...

ووسط كل هذه الغرابة، صرتُ أفكر في أقدم وأغرب المواقف وأكثرها إرباكًا، والتي لم تخطر ببالي منذ سنوات، ووجدتُ في ذلك الكثير من الألفة. يشرد عقلي من تلقاء نفسه وراء ألف فكرة في وقت واحد، وكل الأفكار تشترك معًا في أنها دارت في شارع من شوارع بلدي أو في بيت متواجد هناك، أو مع شخص لم يزل يعيش هناك ... لا أشعر أنني غادرتُ المكان، لأن المكان لم يغادرنِ. ومع مرور الوقت زادت جرأتي وقدرتي على اقتحام الذكريات القديمة ومواجهة نفسي بالحقائق.

قال ديفيد ميتشيل: "عندما تسافر طويلاً، تقابل نفسك في النهاية." ...وعندما يحدث ذلك، ترى حقيقتك بالحجم الطبيعي دون أي إنكار، وبعيدًا عن أي طمأنينة تبعثها فيك كلمات من وجوه مألوفة... لن يمكنك أن تضلل نفسك بعد ذلك.

هنا... أمر باختبار قاسي سيكشف عن معدني الحقيقي، وقد يحدث في النهاية أن أخذل نفسي في كل ما اعتقدتُ أنني أعرفه عنها... لا أشعر بالخفة، ولكنني فوجئتُ بوزني الحقيقي ودرجة مرونتي على تقبـُّل الطباع والظروف الغريبة. يدق العالم على رأسي بكل قوته، يجبرني على تنعيم حوافي المدببة التي تخيف الآخرين مني - هل سأعود إلى بلدي عندما أرى أنني جنيتُ ثمرة الدرس المتخفي وراء وجودي في هذه البلد، وبعد أن أمتص العصارة وأكتفي؟ أم سأعود عندما ترهقني كل هذه الغرابة، هاربة بنفسي إلى دفء كل ما هو مألوف؟

رأيتُ نفسي أنغمس بالكامل... ودون خوض أي حروب لا جدوى لها للحفاظ على هويتي، وجدتني أحييهم بطريقتهم، آكل أكلهم بطريقتهم، وأحدثهم بالقليل الذي أعرفه عن لغتهم، أقرأ صحفهم وأتابع أخبار التوك شو التي تناقش قضاياهم، وألبس ملابسهم القومية في الأفراح والمناسبات، وأفصِّل دائمًا قطًعة زائدة كي تناسب ما لا يمكنني أن أظهره من جسدي... وأعود إلى منزلي لأطبخ الأكلات المصرية في مطبخي الصغير هنا، وأشتاق إلى مطبخي الصغير هناك في الإسكندرية... ولاختلاف المكونات، أبحث دائمًا عن بدائل ... أعدُ الكشري بدون البصل الذي لا أحبه، والمحشي بدون شوربة اللحم أو الدجاج التي لا يأكلوها هنا. ولعدم توفر الملوخية، أعددتُ البامية بنفس طريقة الملوخية، واكتشفتُ فيما بعد أن هذه الأكلة هي أكلة مصرية أصيلة اسمها الويكا ...و قد ظللتُ فترة أظن أنني من اخترعتها.

السفر لفترات طويلة بمفردك يجعلك دائمًا، ورغمًا عنك، في حالة بحث عن بيت جديد ... مهما مرت الشهور، يظل عقلك في معزل عما يدور حولك؛ تتلقى كل ما يحدث حولك وتخزنه للتعامل معه فيما بعد، لأن عقلك معلَّق بمكان آخر عشت فيه مع كل من تعرفهم.

الشيء المحبط في السفر ... هو أن ذلك الشعور بالقفزة إلى بداية جديدة غير حقيقي ولا يحدث. لازلتُ هناك أجوب عالمي بعقلي... وأجري بعض التعديلات ،ومن حين لآخر استخلص بعض الدروس المستفادة، وفي نفس الوقت حاضرة ومتفاعلة تمامًا مع حياتي هنا.

السفر أمر مبالغ فيه... السفر لا يحقق السعادة، ولن يبعدك عن المكان، ولن يعطيك المساحة... سيأتي كل شيء معك في الحقيبة. 

لكنني في النهاية ممتنة ومدينة له بالكثير من الاكتشافات ... أهمها هي أنني تأكد إيماني بأن الشخص لا يتغير تغييرًا سحريًا بتغيير مكانه ولن يصبح شخصًا جديدًا. ورأيتُ أنه وسط شوارع مليئة بمشكلات القمامة والصرف، سيتواجد شخص تعوَّد أن يرمي بقمامته في حقيبته كي يتخلص منها فيما بعد. وأنه وسط طباع شعوب قليلة المعرفة بالذوقيات، سيظل هنالك من يطرق الباب قبل الدخول، وأن يعتذر سريعًا عندما يرتطم بأحدهم أو يدهس قدمه دون قصد. 

والمفاجأة هي أنني اكتشفتُ أن المسافر يقترب، بسفره، ممن يبتعد عنهم مهما بدا لهم عكس ذلك. تعلو أصواتهم في عقله ويحضرون حوله من كل مكان، ويظل هكذا مستريح في قربهم وفي منآي عن مشكلاتهم. وأقول أنني لم أكن أقرب ممن يهمني أمرهم قدر قربي منهم وأنا بعيدة ! ولا أعلم إن كنت سعيدة بهذا الاكتشاف...

---------------------

* فوتوغرافيا: إيفو بيرج
http://www.ivobergphotography.com/


3 comments:

  1. جميلة وعميقة جداً يا سارة، أنا أحب السفر وحدي، والسبب رغبتي في اكتشاف المدينة بنفسي، وربما لا أريد أن يعيدني أحد من هناك من حيث أتيت، ولكنك هنا، وربما بسبب طول المدة اكتشفت ما هو أجمل وأدق، رائعة رائعة استمري وأمتعينا باكتشاف المزيد منك ومما حولك ، شكراً للمشاركة

    ReplyDelete
  2. جميلة يا سارة بجد و بتلمس حاجات صتبة عند كل واحد سافر او على الاقل انا

    ReplyDelete
  3. بصراحة جميلة واجمل مافيها كلمات بسيطة ومعاني عميقة ومشاعر جياشة .تلك الكلمات غيرت كثيرا من فكرتي عن السفر .شكرا سارة

    ReplyDelete